كثافة المقررات وتقليدانية الامتحاناتمسألة بناء البرامج والمناهج التعليمية تتحكم فيها عدة معايير وأهداف تربوية ومجتمعية…
و اظن ان معظم صانعي البرامج والمناهج لا يستحضرون أساسا مسألتي الزمن والتقيم بالنسبة للقدرات الفعلية والعينية للمتعلم المستهدف،حيث غالبا في بناء البرامج(المقررات،المواد الدراسية) والمناهج والطرق التعليمية يعتمدون على معايير تستهدف أساسا السيكولوجية النمائية للمتعلم،والمرجعيات النظرية والطرق البيداغوجية،بالاضافة إلى الأهداف الإيديولوجية والقيمية والمجتمعية عامة(الاقتصادية،السياسية،الاجتماعية،الثقافية…).وعليه تبقى مسألة المعطى الكمي للبرامج والمقررات،والتقييم(الامتحانات،المراقبة…)،تأتي في لحظة ثانية،لحظة التنظيم والهيكلة،وتكييف المضامين والطرق الديداكتيكية والغلاف الزمني للبرامج والمقررات والتقييم ومختلف العمليات التعليمية التعلمية مع التنظيرات والمراجع الافتراضية للمنهاج والفلسفة التربويين المؤطرين للفعل التعليمي التعلمي.
واظن أن البرامج من حيث الكم تتحكم فيها عدة معطيات:
- تعدد التخصصات المعرفية.
- الأهداف السياسية والاقتصادية والقيمية والثقافية.(مثلا،كل مرة نضيف مادة جديدة ،أو غلاف زمني جديد لمادة ما، لإرضاء جهة او تحقيق حاجة جديدة ما،حسب مستجدات معينة)
- الأهداف التدبيرية(علاقة الزمن بالمناصب المالية وعدد المتعلمين وعدد المؤسسات التربوية).
- الأهداف التجارية الخفية للكتاب المدرسي كسلعة،نظرا للعدد الهائل من الزبناء(متعلمين وأساتذة ومؤطرين)،حيث كثرة المواد توازيها كثرة الكتب والمراجع التربوية.
لذلك،ونظرا للمعطيات السالفة، و لتدخل عوامل أخرى لا تربوية،بالإضافة إلى عدم تبني البحث العلمي الميداني والتجريبي الذي يستهدف المتعلم أساسا قبل الإقدام على أي إصلاح او اتخاذ أ ي قرار تربوي،تُطرح عدة اختلالات ومشاكل تربوية وتعليمية تعلمية،ومنها كثافة المقررات في علاقتها بالتقييم والامتحانات،مما يثير عدة أسئلة حول فعالية وعلمية نظام التقييم في علاقته بالمقررات التعليمية(كما وزمنا وطرقا)!وللإجابة عن تلك الأسئلة يجب القيام ببحوث ودراسات ميدانية علمية،وهي القمينة بإعطائنا المؤشرات والمعطيات القمينة ببناء أو إصلاح موضوعي وفعال لنظام التقييم في علاقته بالبرامج والمقررات،وبالهيكلة والتنظيم الصحيحين للسنة الدراسية.
لكن،من خلال معاينتي الميدانية،ومتابعاتي المعرفية للمنظومة والشأن التربويين،يمكن إبداء بعض الملاحظات والأفكار التالية:
- المتعلمون يشتكون من كثافة البرامج حين يتعلق الأمر بالامتحانات الدورية والسنوية،لان الأمر يتطلب منهم مجهودات تفوق طاقاتهم، لكثرة المواد وبعدها الزمني عن لحظة الامتحان(وهذا مايفسر نسبيا التباين الشاسع بين نتائج المراقبة المستمرة والامتحانات الدورية أو السنوية).وأظن أن سبب هذه الشكايات،وجوهر المشكلة،هو كون جل نظام التقييم والامتحانات يتمحور حول عملية التذكر(التقييم البنكي)،إذ يجد المتعلم نفسه أمام مهمة ثقيلة وصعبة للاسترجاع ذلك الكم الهائل من المعلومات لمختلف المواد الدراسية موضوع التقييم؛وذلك خطأ بيداغوجي يتحمل المتعلم عواقبه،حيث،وكما هو معروف في الأدبيات التربوية الحديثة،فإن البيداغوجيا الفعالة أصبحت تتمحور حول كفايات المتعلم،وحول القدرةعلى التعلم الذاتي ،وحول بناء المهارات والقدرات العقلية العليا(التحليل،التركيب، التجريد،التقييم والنقد،الابتكار والإبداع،التجديد…).في كلمة واحدة،فإن هذه البيداغوجيا تستهدف في بعدها العقلي والمعرفي والوجداني بناء الكفايات والقدرات والمهارت العليا والفعالة،والتي تجعل المتعلم كفرد ومواطن قادرا على أن يكون فعالا وفاعلا في مجتمعه،من خلال اكتسابه لشخصية قوية ومؤهلة و مستقلة، وذات قدرات معرفية منهجية متطورة،وثقافة علمية وعملية متينة ونافعة،وليس مجرد آلة ناسخة للمعلومات،واسترجاعها حرفيا عندما ننقر على زر الامتحانات والتقييمات المختلفة.
إذن،على مناهجنا وبرامجنا وطرقنا التعليمية والتقييمية أن تهجر البيداغوجيا التقليدية والسلبية التمحورة على الذاكرة والمعلومات(بضاعتنا ردت إلينا) وسلبية ذات المتعلم ‘ وتبني بيداغوجيا حديثة وفعالة تتمحور حول فعالية المتعلم،كبيداغوجيا الكفايات،وخصوصا التقييم بالكفايات،وغيرها من البيداغوجيات الحديثة.
كما تجدر الإشارة كذلك إلى ضرورةاعتماد نظام تقييمي موضوعي وعلمي ومنصف للمتعلم، كما هو وارد مثلا في طريقة التقييم التي أقترحها “كزافيي روجرس” صاحب بيداغوجيا الإدماج.(وستكون لدينا مناسبة في عمل لاحق للتدقيق فيمسألة الموضوعية والإنصاف في التقييم-خصوصا المراقبة المستمرة والامتحانات- انطلاقا من بيداغوجيا الإدماج لكزافيي وغيرها من المقاربات)
- وكشكل من أشكال تفعيل البيداغوجيا الحديثة في التقييم،كما حددناه سالفا،يمكن أن نبني وضعيات تقييمية (امتحانات)تستهدف كفايات معينة لدى المتعلم ونترك له المجال لاستخدام المصادر التي يراها مناسبة،بما في ذلك استعمال المقررات الدراسية والكتب(وهذه طريقة ستريحنا أيضا من مشاكل الغش في الامتحانات)،ليجد المتعلم نفسه وجها لوجه أمام قدراته الذاتية الحقيقية.
- كما يجب التفكير وإعادة النظر في زمن الامتحان وفتراته وعدده وأنواعه بطريقة موضوعية وعلمية،تركز على الكفايات والقدرات والمهارات الأساسية لدى المتعلم،وتسهل مهمته التعلمية،لأن التقييم(الامتحان)هو أيضا لحظة تعلمية بامتياز.
صحيح،بالسبة للمغرب،في إصلاحه الأخير لمنظومة التربية والتكوين،حاول اعتماد بيداغوجيات حديثة(بيداغوجيا الكفايات أساسا) في بناء المنهاج التعليمي؛وفيما يخص مثلا البرامج والمقررات،من حيث مضامينها،تطرح عدة إجراءات لجعلها أكثر إيجابية وفعالية،ك”تجاوز التراكم الكمي للمضامين المعرفية المختلفة عبر المواد التعليمية،استحضار البعد المنهجي والروح النقدية في تقديم محتويات المواد،إحداث التوازن بين المعرفة في حد ذاتها والمعرفة الوظيفية،اعتماد مبدأ التنسيق والتكامل في اختيار مضامين المناهج التربوية،لتجاوز سلبيات التراكم الكمي للمعارف ومواد التدريسة” (الكتاب الأبيض،الجزء الأول).كما يشير الميثاق الوطني للتربية والتكوين في المجال الثالث(المادة 104) إلى انه”يستجيب الرفع من جودة أنواع التعليم من حيث المحتوى والمناهج لأهداف التخفيف والتبسيط والمرونة والتكيف”.غير انه،ورغم هذه الإجراءات وغيرها التي نجدها بين دفتي الميثاق الوطني والكتاب الأبيض،التي تدعو إلى تجاوز البعد الكمي في المقررات والبرامج،نلاحظ،خصوصا على مستوى التعليم الابتدائي والتاهيلي،سيادة كثافة المواد ،بل هناك أخرى جديدة تضاف كل مرة إلى القديمة.كما يبقى نظام التقييم(الامتحانات والمراقبة) في بعده البيداغوجي وليس التنظيمي هو المسكوت عنه الأكبر في المنهاج المغربي والمؤسسات التربوية،حيث لازالت المقاربات التقليدية هي المهيمنة خطابا وتطبيقا،ولازال بناء البرامج وعلاقته بنظام التقييم بعيدا عن المقاربات الموضوعية العلمية الدقيقة،وعن مقاربات بيداغوجيا الكفيات المعتمدة رسميا،ولازال البون شاسعا بين النظري الافتراضي والمتعلم الحقيقي والعملية التعليمية الواقعية والامبريقية داخل الفصل الدراسي .
يقول المفكر والباحث التربوي فليب بيرنو:”إن أردنا أن تكون المقاربة بالكفايات ناجعة علينا أن نكيف ونضبط البرامج حسب التقييم،وذلك بكيفية تجعله يهتم مبدئيا وتطبيقيا بالكفايات” . لذلك بالنسبة إليه فإن التقييم هو البرنامج الحقيقي.
ونختم بالقول،بأنه من أولويات الإصلاح الحقيقية والملحة،إعادة النظر في مناهجنا التعليمية من حيث العلاقة العضوية والجدلية بين البرامج والمناهج الدراسية ،ونظام التقييم،والمتعلم الحقيقي(كما هو في الواقع وليس كما هو مفترض نظريا)،وذلك باعتماد مقاربات ودراسات علمية وميدانية حقيقية وموضوعية،تعتمد معايير الكيف والنوعية والابداعية وليس الكم والنسخ.